يمر الإنسان خلال حياته الطويلة –أي من بداية خلقه وحتى وصوله إلى مرحلة الخلود في الجنة أو النار – في عدة مراحل أو عوالم مختلفة منها عالم الأرواح (ويسمى أيضاً بعالم الأشباح أو الظلال)وعالم الذر وعالم الأصلاب وعالم الأرحام وعالم الدنيا وعالم البرزخ وعالم القيامة ثم في الأخير عالم الخلود في الجنة أو النار ، ولا تشكل الحياة الدنيا التي نعيش فيها إلا مرحلة صغيرة جداً قياساً بتلك المراحل والعوالم المتعددة
أدلة وجود عالم الذر :
قال تعالى :﴿وَإِذْ (َذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ
.لما خلق الله تعالى آدم، أخرج جميع أبنائه إلى الوجود، أي كل البشر من عهد آدم إلى آخر الناس الذين تقوم عليهم القيامة وخاطبهم الله تعالى : ألست بربكم ، فقالوا: بلى" . قال القرطبي: "أخذ عليهم العهد بأنه ربهم وأن لا إله غيره. فأقروا بذلك والتزموه، وأعلمهم أنه سيبعث إليهم الرسل، فشهد بعضهم على بعض. ثم أعادهم الباري إلى صلب آدم، فلا تقوم الساعة حتى يولد كل من أخذ منه الميثاق).
لكن الناس لم يكونوا - حين الإخراج - كحالهم اليوم، بل كانوا - كما ورد في الحديث - كالذر، فعرفهم وأراهم نفسه -أي برؤية القلب -ولولا ذلك لم يعرف أحد ربه . وقد خلق الله تعالى في ذلك الذر العقل والفهم والنطق، حتى يستوعبوا العهد
وعن ابن بكير عن زرارة قال سألت أبا عبدالله عن قول الله :﴿ وَإِذْ (َذَ رَبُّكَ ….﴾فقال :(ثبتت المعرفة في قلوبهم ونسوا الموقف وسيذكرونه يوماً ما ، ولولا ذلك لم يدر أحد من خالقه ولا من رازقه ، فمنهم من أقر بلسانه في الذر ولم يؤمن بقلبه فقال الله (( فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ
إذن نستنتج مما مضى من آيات وروايات -وهناك من أمثلتها الشيء الكثير ربما تتجاوز العشرات أوالمئات من الأحاديث -أن هناك عالم يسبق عالمنا هذا ويطلق عليه اسم عالم الذر نسبة إلى أن الناس كانوا فيه على شكل ذر ولكنهم كانوا يملكون كافة المشاعر والأحاسيس العقلية والفكرية والنفسية التي نملكها اليوم وربما أكثر .
ماهية عالم الذر :
السؤال الذي يدور في ذهن الكثيرين منا ويحتاج إلى إجابة هو هل كنا في عالم الذر أرواحا وأجسادا أم أرواحا فقط أم ماذا؟
اختلف علماؤنا الكرام بشأن عالم الذر كثيراً وتعددت آراؤهم في ذلك الا ان الثابت والله اعلم اننا كنا في عالم الذر ارواحا ،
حيث لم يكن هناك أجساد أو مانسميه بعالم المادة وإنما كان عالم أرواح أو أشباح فقط لاغير ، وفيه تم أخذ الميثاق على الناس بالربوبية له سبحانه وللأنبياء بالنبوة وكذلك باقي العقائد الأساسية وقد .
ذهب البعض من العلماء لأبعد من ذلك واعتبر أن الحياة في عالم الذر امتدت لفترة غير قصيرة من الزمان ، وجرى في ذلك العالم الكثير من الحوادث والقضايا على بني آدم وجرى بينهم الصداقات والعداوات أيضاً ، وربما يدل على ذلك حديث النبي :(الأرواح جنود مجنده فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها أختلف )15، وقال بعضهم أنه كان هناك أيضاً إرتكاب المعاصي من البعض فكان هناك المطيع والعاصي لله تبارك وتعالى ، وان كثيراً من الأحداث التي نواجهها الآن ما هي إلا عبارة عن طبعة ثانية لأحداث ذلك العالم ، ولذلك تمر على الإنسان أحياناً بعض المواقف أو الأحاديث فيتذكر أنه قد رآها من قبل أو مرت عليه من قبل مع أنها تحصل له لأول مرة
مما مضى يتضح لنا أن الله سبحانه وتعالى فطر الخلق على معرفته منذ البداية وزرع فيهم المفاهيم الأساسية وكذلك قيم الخير المختلفة مثل الصدق والعدل وكراهية الحسد وغير ذلك من القيم الأخلاقية المزروعة في وجدان كل واحد منا ، ولذلك كان دور الأنبياء عليهم السلام هو التذكير فقط لهذا الإنسان وإثارة تلك المعارف المدفونة في داخله وتنبيهه عن الغفلة ، وكما قال تعالى :﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ﴾
وهنا يبرز لنا سؤال هام وهو أنه إذا كان الله سبحانه وتعالى قد إمتحننا في عالم الذر وكان منا المطيع ومنا العاصي ، فلماذا إذن جئنا لعالم الدنيا ؟
والجواب أنه من رحمة الله الواسعة وتلطفه بالعباد أعطى الخلق فرصة ثانية في هذه الحياة الدنيا ليستنقذوا أنفسهم من النار ويصلحوا أعمالهم السيئة ليستحقوا بذلك عفو الله ويفوزوا بالسعادة الأبدية في الآخرة ، فكما جعل الله سبحانه التوبة كفارة للسيئات ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾27، فكذلك شائت رحمته تبارك اسمه أن يعطي الإنسان الفرصة للعيش في حياتين مختلفتين ويكون له فيهما مطلق الحرية في اختيار الطريق الذي يؤدي به إلى الجنة أو إلى النار ، ولعل ذلك تفسير قوله تعالى :﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ﴾28، كما جاء في بعض التفاسير
. وفي الواقع نحن لم ننس تماماً كل ما جرى في عالم الذر ، ففي كثير من الأحيان نلتقي بأشخاص لأول مره فنتذكر أننا رأيناهم من قبل ، وقد نصادف حدث معين أو نمر بمكان ما لأول مره فنحدث أنفسنا أن هذا مر علينا من قبل ، مما يعني بقاء شيء من ذلك في الذاكرة البعيدة ، ثم ان الإنسان كثيراً ما ينسى حوادث معينة حصلت له في عالم الدنيا وربما لم يمض عليها سوى سنوات قليلة أو أيام معدودة ، فكيف سيذكر الإنسان ما حدث قبل مئات من السنين مع فواصل الموت قبل الحياة الدنيا والإنتقال عبر العوالم المتعددة مثل عالم الأصلاب والأرحام وغيرها ثم الولادة في الدنيا وأحداث الطفولة
إن نسيان الأكثرية لحوادث عالم الذر يرجع في الواقع إلى إختلاف نوعية مقاييس عالمنا الحالي مع نوعية مقاييس عالم الذر ، وإختلاف المقاييس هو بصورة دائمة من عوامل النسيان ..بدليل أن كل إنسان يرى في النوم أحلاماً كثيرة ولكنه ينساها في اليقظة ، لأن مقاييس حالة النوم تختلف عن مقاييس حالة اليقظة ، ولهذا فنحن لا نتذكر إلا 10% فقط من أحلامنا ، وعلى أي حال فأن قصة وجودنا في عالم الذر ستنكشف لنا عندما نرجع مرة ثانية إلى مقاييس ذلك العالم بالموت "فالناس نيام إذا ماتوا انتبهوا "كما جاء في الحديث ، والموت من هذه الجهة مثل اليقظة بعد حلم طويل يكشف للإنسان عن واقعه الذي طالما غفل عنه والله اعلم